فصل: الشاهد السابع والثلاثون(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السابع والثلاثون

كم دون مية من خرق ومن علم *** كأنه لامع عريان مسلوب

على أن عريان جاء في ضرورة الشعر ممنوع الصرف، تشبيهاً بباب سكران‏.‏

قد تقدم في الشاهد السابع عشر أن الكوفيين يجيزون ترك الصرف للضرورة في الأعلام وغيرها، ومن جملة شواهدهم‏:‏

والسيف عريان أحمر

وتقدم‏.‏ وكم هنا للتكثير‏.‏ ودون بمعنى قدام‏.‏ ومية اسم محبوبة ذي الرمة ولقبها الخرقاء كما تقدم بيانه في الشاهد الثامن‏.‏ وفي أكثر نسخ هذا الشرح بيشة بدل مية، وهو موضع باليمن وهو مأسدة‏.‏ وفي كتاب النبات للدينوري‏:‏ بيشة‏:‏ واد عظيم من أودية نجد‏.‏ وهو تحريف من الكتاب‏.‏ والخرق - بفتح المعجمة وسكون الراء المهملة وبالقاف -، هو الأرض الواسعة التي تتخرق فيها الرياح‏.‏ والعلم‏:‏ الجبل، والمنار الذي يهتدى به في الطريق‏.‏ وجملة كأنه صفة للعلم والرابط ضمير كأنه‏.‏ شبهه برجل عريان سلب ثوبه فهو يشير إلى القوم‏.‏ واللامع من لمع الرجل بيده إذا أشار، والموصوف محذوف أي‏:‏ رجل لامع‏.‏ وهذا البيت من أبيات عشرة لذي الرمة‏.‏

وقبل هذا البيت‏:‏ البسيط

هيهات خرقاء إلا أن يقربه *** ذو العرش والشعشعانات الهراجيب

يستبعد الوصول إليها لبعد ما بينهما، إلا أن يقربها الله إليه والجمال‏.‏ والشعشعانة‏:‏ الناقة الخفيفة الطويلة‏.‏ والهراجيب‏:‏ جمع هرجاب، وهي الناقة الطويلة الضخمة‏.‏

ثم بعد أن وصف الناقة في أبيات ثلاثة قال‏:‏

كم دون مية من خرق ومن علم ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وبعده‏:‏

ومن ملمعة غبراء مظلمة *** ترابها بالشعاف الغبر معصوب

هذا معطوف على قوله من خرق ومن علم ‏.‏ والملمعة‏:‏ اسم فاعل، وهي الفلاة التي يلمع فيها السراب؛ ويقال لها اللماعة أيضاً‏.‏

قال ابن أحمر‏:‏ السريع

كم دون ليلة من تنوفية *** لماعة ينذر فيها النذر

والسراب يقال له يلمع، ويشبه به الكذوب‏.‏ والشعاف‏:‏ رؤوس الجبال‏.‏ والمعصوب‏:‏ الملفوف عليه كالعصابة‏.‏

وبعده هو آخر الأبيات‏:‏

كأن حرباءها في كل هاجرة *** ذو شيبة من رجال الهند مصلوب

الهاجرة‏:‏ نصف النهار عند اشتداد الحر‏.‏ والحرباء‏:‏ دويبة تستقبل الشمس على أغصان الشجر وتدور معها كيف دارت، ويتلون ألواناً بحر الشمس يخضر كأنه شيخ هندي مصلوب على عود‏.‏

وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن والثلاثون

أنا ابن جلا وطلاع الثناي *** متى أضع العمامة تعرفوني

على أن جلا غير منصرف عند عيسى بن عمر، لأنه منقول من الفعل، ولم يشترط غلبة الوزن بالفعل‏.‏ وأجاب عنه الشارح المحقق تبعاً لغيره بوجهين‏:‏ الأول وهو جواب س‏:‏ أن العلم إنما هو الفعل مع ضميره المستتر، فهو جملة محكية وليس العلم هو الفعل بدون ضميره‏.‏ ويرد عليه أن جلا ليس اسماً لأبي الشاعر ولا لقباً له كما يعلم من ترجمته الآتية، وإنما ابن جلا في اللغة المنكشف الأمر، كما قال المبرد في الكامل‏.‏

وقال القالي في أماليه‏:‏ يقال هو ابن جلا، أي‏:‏ المنكشف المشهور الأمر، وأنشد الأصمعي‏:‏

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا‏.‏‏.‏ إلخ

قال‏:‏ وابن جلا مثله‏.‏ وأنشد العجاج‏:‏

لاقوا به الحجاج والإصحار *** به ابن أجلى وافق الإسفارا

قال‏:‏ ولم أسمع بابن أجلا إلا في بيت العجاج‏.‏ وقوله لاقوا به ، أي‏:‏ بذلك المكان‏.‏ وقوله‏:‏ والإصحارا ، أي‏:‏ وجدوا به ابن أجلى، كما تقول لقيت به الأسد أي‏:‏ كأني لقيت بلقائي‏.‏ وقوله وافق الإسفارا ، أي‏:‏ واضحاً مثل الصبح‏.‏ وقال ابن الأثير في المرصع‏:‏ ابن جلا، وابن أجلى، هو الرجل المعروف المشهور والأمر الواضح المكشوف‏.‏ وزعم بعضهم أن ابن جلا اسم رجل كان فاتكاً صاحب غارات مشهور بذلك‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وقوله بعد هذ‏:‏ وهو في الأصل فعل ماض سمي به، وإنما لم يصرف لأنه أراد به الحكاية فاسد؛ لأنه ركب من القولين قولاً‏.‏

وقال البلوي في كتاب ألف باء‏:‏ ابن جلا وابن أجلى هما بمعنى التجلي والأمر المنكشف، وهو أول النهار‏.‏ وقال صاحب القاموس‏:‏ وابن جلا الواضح الأمر كابن أجلى‏.‏ وقال ابن الأنباري والقالي في المقصور والممدود لهما‏:‏ وقولهم أنا ابن جلا‏:‏ أنا ابن البارز الأمر، أنا ابن من لا ينكر‏.‏

فهذا كله يدل على عدم اختصاصه بأحد، بل يجوز لكل أحد أن يقول للتمدح‏:‏ أنا ابن جلا، كما قال اللعين المنقري يهجو رؤبة بن العجاج‏:‏ البسيط

إني أنا ابن جلا إن كنت تعرفني *** يا رؤب والحية الصماء والجبل

أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني *** وفي الأراجيز خلت اللؤم والفشل

وهذا البيت ينشده النحويون‏:‏

وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور

والصواب ما ذكرناه‏.‏ فإن القصيدة لامية، إلا أن يكون من قصيدة أخرى رائية وقال الآخر‏:‏

أنا القلاخ بن جناب بن جلا

قال العسكري في التصحيف‏:‏ جناب جد القلاح‏.‏ انتسب إليه‏.‏ وابن جلا ليس بجد، إنما أراد أنا ابن الأمر المكشوف، مثل قول سحيم‏:‏

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ انتهى

الثاني وهو جواب الزمخشري في المفصل‏:‏ أن جلا ليس بعلم، وإنما هو فعل ماض مع ضميره صفة لموصوف محذوف‏.‏ وبهذا الوجه أورده الشارح في باب النعت وفي باب أفعال المدح والذم أيضاً، وضعفه في الأبواب الثلاثة بأن الجملة إذا كانت صفة لمحذوف فشرط موصوفها أن يكون بعضاً من متقدم مجرور بمن وفي كما بين‏.‏

ويبقى وجه ثالث ذكره ابن الحاجب في أماليه وهو أن يكون جلا اسماً لا فعلاً، وأن يكون بتقدير ذي، أي‏:‏ أنا ابن ذي جلا، والجلا هو انحسار الشعر عن مقدم الرأس‏.‏

أقول‏:‏ في القاموس وغيره‏:‏ الجلا بالقصر‏:‏ انحسار مقدم الرأس من الشعر ونصف الرأس، وهو دون الصلع، جلي كرضي جلا‏.‏ انتهى وفي المقصور والممدود لابن الأنباري والقالي‏:‏ الجلا انحسار الشعر من مقدم الرأس من جانبي الجبهة، مقصور يكتب بالألف لأنه يقال‏:‏ رجل أجلى وامرأة جلواء‏.‏ وعلى هذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ذي، فإنه يقال فلان ابن كذا بمعنى أنه ملازم له كما يقال أخو حروب‏.‏ والصلع ونحوه أحد محايل الشجاعة وأماراتها، وقيل من دلائل الكرم، لأن العرب تقول‏:‏ الذي ولد أصلع يكون كريماً بحسب الغالب‏.‏ والمراد من وضع العمامة إزالتها عن الرأس، إما لأن الذي يعرفه إنما رآه مكشوف الرأس في الحروب لكثرة مباشرته إياها فإذا رأى العمامة جهله، وإما لأن الذي يعرفه إنما رآه لابساً آلات الحرب وعلى رأسه البيضة لكثرة حروبه فينحي عمامته ويلبس البيضة‏.‏

وهذا محصل كلام ابن الحاجب في أماليه، وعبارته‏:‏ قوله‏:‏ متى أضع العمامة تعرفوني إلخ إما أن يريد كثرة مباشرته الحروب فلا يراه الأكثر إلا بغير عمامة فقال‏:‏ متى أضع العمامة يعرفني الذي ما رآني إلا غير متعمم، ويريد أنني بكثرة مباشرتي الحروب ولباسي بيضة الحرب فمتى أضع العمامة وألبس آلة الحرب يعرفوني‏.‏ يعني إذا حاربت عرفت بإقدامي وشجاعتي‏.‏ انتهى‏.‏

والوجه هو الأول، وقد لحظه ضياء الدين موسى بن ملهم الكاتب، فأخذه وضمنه ببعض تغيير في الرشيد عمر الغوي وكان به داء الثعلب، وهو من نوادر ما قيل في أقرع، وقال‏:‏ الوافر

عجبت لمعشر غلطوا وغضو *** من الشيخ الرشيد وأنكروه

هو ابن جلا وطلاع الثناي *** متى يضع العمامة يعرفوه

وقال أبو العباس أحمد اللخمي المالكي وتوفي في سنة 603 ثلاث وستمائة‏:‏

يسر بالعيد أقوام لهم سعة *** من الثراء وأما المقترون فلا

هل سرني وثيابي فيه قوم سب *** وراقني وعلى رأسي به ابن جلا

يعني بقوم سبا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مزقناهم كل ممزق‏}‏، وابن جلا ما له عمامة‏.‏

وقال ثعلب في أماليه في الكلام على هذا البيت‏:‏ والعمامة تلبس في الحروب وتوضع في السلم‏.‏ وهذا خلاف الواقع وضد معنى البيت‏.‏

وقال الكرماني شارح شواهد الموشح شرح الكافية الحاجبية للخصيبي‏:‏ قوله متى أضع العمامة يحتمل معنيين بحسب اختلاف التقديرين‏:‏ الأول أن يقدر على ، فيكون التقدير متى أضع العمامة على رأسي تعرفونني أني أهل للسيادة والإمارة‏.‏

والثاني أن يقدر عن ، أي‏:‏ متى أضع العمامة على رأسي تعرفوا شجاعتي بواسطة صلع رأسي، لأنه أحد مخايل الشجاعة‏.‏

هذا كلامه‏.‏ ولم يتعرض لمعنى وضع العمامة العيني ولا السيوطي ولا صاحب المعاهد في شروح شواهدهم‏.‏ وطلاع مبالغة طالع يقال‏:‏ طلعت الجبل طلوعاً أي‏:‏ علوته، يتعدى بنفسه‏.‏ وطلعت فيه‏:‏ رقيته‏.‏

قال ثعلب في أماليه‏:‏ من رفع طلاع الثنايا جعله مدحاً لابن، ومن خفضه جعله مدحاً لجلا‏.‏ يعني أنه روي فيه الخفض والرفع، والجيد عندي الرفع‏.‏ والثناي‏:‏ جمع ثنية‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ هي الطريق في الجبل والطريق في الرمل يقال له‏:‏ الخل ، وإنما أراد به أنه جلد بطلع الثنايا في ارتفاعها وصعوبتها ‏.‏

قال دريد بن الصمة يعني عبد الله أخاه‏:‏ الطول

كميش الإزار خارج نصف ساقه *** بعيد من السوءات طلاع أنجد

والنجد‏:‏ ما ارتفع من الأرض‏.‏

وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني‏:‏ قوله طلاع الثنايا أي‏:‏ يطلع على الثنايا، وهي ما علا من الأرض وغلظ‏.‏ ومثله قولهم‏:‏ طلاع أنجد ‏.‏

وقال العيني‏:‏ والثناي‏:‏ جمع ثنية، وهي السن المشهورة‏.‏ وهذا غير لائق به‏.‏

وهذا البيت مطلع قصيدة لسحيم بن وثيل الرياحي، وليس هو للعرجي كما توهمه التفتازاني في المطول‏.‏ وبعده‏:‏

وإن مكاننا من حميري *** مكان الليث من وسط العرين

وإني لن يعود إلي قرني *** غداة الغب إلا في قرين

بذي لبد يصد الركب عنه *** ولا تؤتى قرينته لحين

عذرت البزل إذ هي خاطرتني *** فما بالي وبال ابني لبون

وماذا يبتغي الشعراء مني *** وقد جاوزت حد الأربعين

أخو خمسين مجتمع أشدي *** ونجدني مداورة الشؤون

فإن علالتي وجراء حولي *** لذو شق على الضرع الظنون

كريم الخال من سلفي رياح *** كنصل السيف وضاح الجبين

متى أحلل إلى قطن وزيد *** وسلمى تكثر الأصوات دوني

وهمام متى أحلل إليه *** محل الليث في عيص أمين

ألف الجانبين به أسود *** منطقة بأصلاب الجفون

وإن قناتنا مشظ شظاه *** شديد مدها عنق القرين

روى صاحب المعاهد وغيره، أن السبب في هذه الأبيات‏:‏ أن رجلاً أتى الأبيرد الرياحي وابن عمه الأحوص، وهما من ردف الملوك من بني رياح، يطلب منهما هناء لإبله، أي‏:‏ قطرانا‏.‏ فقالا له‏:‏ إذا أنت أبلغت سحيم بن وثيل الرياحي هذا الشعر أعطيناك‏.‏ فقال‏:‏ قولا‏.‏ فقالا‏:‏ اذهب وقل له‏:‏

فإن بداهتي وجراء حولي *** لذو شق على الحطم الحرون

قلما أتاه وأنشده الشعر أخذ عصاه وانحدر في الوادي يقبل فيه ويدبر ويهمهم بالشعر، ثم قال‏:‏ اذهب وقل لهما‏.‏ وأنشد هذه الأبيات‏.‏ قال‏:‏ فأتيا واعتذرا له، فقال‏:‏ إن أحدكما ليرى أنه صنع شيئاً حتى يقيس شعره بشعرنا، وحسبه بحسبنا ويستطيف بنا استطافة البعير الأرب‏؟‏‏!‏ انتهى‏.‏

وفي العمدة لابن رشيق‏:‏ أن الأحوص والأبيرد ابني المعذر، وهما شاعران مفلقان‏.‏ وقال عبد الكريم‏:‏ الأبيرد ابن أخي الأحوص‏.‏ انتهى‏.‏ والردف بضمتين‏:‏ جمع ردف - بكسر فسكون -‏.‏ والردف هو الذي يجلس على يمين الملك، فإذا شرب الملك شرب الردف قبل الناس، وإذا غزا الملك قعد الردف في موضعه وكان خليفته على الناس حتى ينصرف، وإذا عادت كتيبة الملك أخذ الردف ربع الغنيمة‏.‏

والبداهة بضم الموحدة‏:‏ أول جري الفرس، والجراء بكسر الجيم‏:‏ مصدر جاراه مجاراة وجراء، أي‏:‏ جرى معه‏.‏ والحلول‏:‏ العام‏.‏ والشق بالكسر‏:‏ المشقة‏.‏ والحطم بفتح الحاء وكسر الطاء المهملتين‏:‏ القرس الهرم‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ الحطم المتكسر في نفسه، ويقال للفرس إذا تهدم لطول عمره‏:‏ حطم‏.‏ ويقال‏:‏ حطمت الدابة بالكسر إذا أسنت، وحطمته السن بالفتح حطماً‏.‏ والحرون‏:‏ الفرس الذي لا يقاد، وإذا اشتد به الجري وقف‏.‏

وهذا البيت تعريض لسحيم بأنه لا يبلغ غايتهما لكبره وعجزه‏.‏ والأزب بالزاي المعجمة، والزبب هو طول الشعر، ويقال بعير أزب؛ ولا يكاد يكون الأزب إلا نفوراً لأنه ينبت على حاجبيه شعرات، فإذا ضربته الريح نفر‏.‏

وقول سحيم وإن مكاننا من حميري يأتي في نسبه أن حميرياً أحد أجداده‏.‏ والليث‏:‏ الأسد‏.‏ والعرين بفتح المهملة‏:‏ الأجمة، والغابة وفيها يكون مأوى الأسد‏.‏ يريد أنه في بحبوحة النسب إلى حميري لا في أطرافه‏.‏ والقرن بكسر القاف‏:‏ الكفء في الشجاعة، وقيل عام‏.‏ والغب بالكسر‏:‏ ورود الإبل الماء في اليوم الثاني، وغداة الغب‏:‏ اليوم الذي يسوقون إبلهم فيه‏.‏ والقرين‏:‏ المقارن والمصاحب‏.‏ وفي بمعنى مع‏.‏ وقوله بذي لبد ، بدل من قوله في قرين‏.‏ وفاعل يصد ضمير ذي لبد‏.‏ وضمير عنه وقرينته للقرن‏.‏ وذو اللبد هو الأسد، بكسر اللام وفتح الباء‏:‏ جمع لبدة كقرب جمع قربة، واللبدة هي الشعر المتلبد بين كتفي الأسد‏.‏ والقرينة‏:‏ النفس، يقول‏:‏ إن قرني لا يقدر أن يقابلني من خوفه إلا مع رفيق، كالأسد يقدر أن يدفع ركباً عنه، حتى تسلم نفسه مني لحين من الأحيان‏.‏

وقوله‏:‏ عذرت البزل هو جمع بازل، وهو البعير المسن‏.‏ وخاطرتني‏:‏ راهنتني، من الخطر بالتحريك وهو الشيء الذي يتراهن عليه، وقد أخطر المال‏:‏ جعله خطراً بين المتراهنين‏.‏ وخاطره على كذا‏:‏ راهنه‏.‏ وابن اللبون‏:‏ ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة‏.‏ يقول‏:‏ إذا راهنني الشيوخ على شيء عذرتهم لأنهم أقراني، وأما الشبان فلا مناسبة بيني وبينهم‏.‏ وأراد بابني لبون الأبيرد وابن عمه، فإنهما طلبا مجاراته في الشعر‏.‏

وقوله‏:‏ وماذا يبتغي الشعراء مني إلخ ، رواه الجوهري وماذا يدري الشعراء ‏.‏ قال‏:‏ ادره‏:‏ افتعله، بمعنى ختله، من درى الصيد إذا ختله‏.‏ واستشهد النحاة بهذا البيت على كسر نون الجمع‏.‏

وقوله أخو خمسين أي‏:‏ أنا أخو خمسين سنة‏.‏ واجتماع الأشد عبارة عن كمال القوى في البدن والعقل‏.‏ وقال صاحب العباب‏:‏ والرجل المجتمع‏:‏ الذي بلغ أشده واستوت لحيته، ولا يقال ذلك للنساء، وأنشد هذا البيت لسحيم‏.‏ وفيه نظر‏.‏ وقوله‏:‏ ونجذني بالذال المعجمة، أي‏:‏ هذبني‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ ورجل منجذ أي‏:‏ مجرب أحكمته الأمور ‏.‏ وهو من الناجذ وهو آخر الأضراس، ويسمى ضرس الحلم بكسر الحاء، لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل‏.‏ والمداورة‏:‏ مفاعلة من دار يدور، بمعنى المعالجة والمزاولة‏.‏ والشؤون‏:‏ الأمور، والأحوال، جمع شأن‏.‏

وقوله‏:‏ فإن علالتي إلخ العلالة - بضم العين المهملة -‏:‏ بقية جري الفرس‏.‏ والضرع ، - بفتح الضاد المعجمة والراء المهملة -‏:‏ الضعيف‏.‏ وفي القاموس وضرع ككرم‏:‏ ضعف، فهو ضرع محركة، من قوم ضرع محركة أيضاً، ومهر ضرع محركة‏:‏ لم يقو على العدو‏.‏ والظنون بالمعجمة كصبور‏:‏ الرجل الضعيف والقليل الحيلة‏.‏ وهذا تعريض بأن فيهما ضعفاً لا يقدران على مجاراته وإن كان شيخاً‏.‏

وقوله‏:‏ كريم الخال أي‏:‏ أنا كريم الخال‏.‏ ورياح بكسر الراء المهملة وبالمثناة التحتية، هو ابن يربوع وأبو قبيلة سحيم‏.‏ وأحلل‏:‏ أنزل‏.‏ وقطن وزيد هما خالاه‏.‏ وسلمى خالته‏.‏ وكثرة أصواتهم للترحيب والتهنئة‏.‏ وهمام هو عمه‏.‏ والعيص - بكسر العين وبالصاد المهملتين -‏:‏ الشجر الكثيف الملتف‏.‏ وبين بهذين البيتين سلفيه من رياح‏.‏ والألف‏:‏ الموضع الملتف الكثير الأهل‏.‏ والمنطقة‏:‏ المحزمة بالمنطقة، وهي الحزام‏.‏ يقال‏:‏ انتطق الرجل وتنطق‏:‏ شد وسطه بالمنطقة كمكنسة، وهي ما ينتطق به‏.‏ والجفون‏:‏ جمع جفن بالفتح، وهو قراب السيف‏.‏ وأراد بالجفون السيوف، وبالأصلاب سيورها‏.‏

وقوله‏:‏ وإن قناتنا مشظ إلخ مشظ - بفتح الميم وكسر الشين المعجمة وإعجام الظاء -‏:‏ هو الذي يدخل في اليد من الشوك إذا مس‏.‏ يقال مشظ من باب فرح‏:‏ مس الشوك والجذع فدخل في يده منه شيء، والشظى - بفتح الشين والظاء المعجمتين -، بمعنى الشظية وهي الفلقة والقطعة من الشيء‏.‏ والشديد من الشدة‏.‏ ومدها فاعل شديد‏.‏ وعنق القرين منصوب بمدها‏.‏ والقرين‏:‏ القرن المقاوم‏.‏

والبيت على طريق التشبيه‏.‏ يقول‏:‏ من تعرض لنا بسوء ناله مكروه يتأذى به، كالذي يمس جلده قناة مشظة فيدخل في جلده من شظاها وهي مع ذلك صلبة، من قرن بها مدت عنقه إليها ولم تنثن إليه‏.‏ كذا في شرح أبيات الإصلاح لابن السيرافي‏.‏ وسحيم‏:‏ مصغر أسحم، تصغير ترخيم من السحمة بالضم، وهي السواد‏.‏ ابن وثيل - بفتح الواو وكسر الثاء المثلثة -، وهو في اللغة كما في القاموس‏:‏ السيف، والرشاء الضعيف، والحبل من القنب، والضعيف‏.‏ وفي الإصابة لابن حجر - وتبعه السيوطي في شواهد المغني - أنه بالتصغير، وهو غير منقول‏.‏ ابن أعيفر‏:‏ مصغر أعفر بالعين المهملة والفاء، وهو الرمل الأحمر والأبيض وليس بالشديد البياض‏.‏ وأعيفر ابن أبي عمرو بن إهاب بكسر الهمزة ابن حميري بلفظ النسبة إلى حمير، وهو أبو قبيلة من اليمن، وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏.‏

قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب‏:‏ حميري بن رياح يقال فيه حمري أيضاً أي‏:‏ بفتح الحاء وتشديد الميم‏.‏

وزعم الدماميني في الحاشية الهندية أن الياء في حميري زائدة، وللنسبة بتقدير من نسب حميري‏.‏ وهذا من عدم اطلاعه على نسب الشاعر‏.‏

وتقدم في شرح أول بيت من الشواهد أن حميرياً أحد آباء ذي الخرق الطهوي أيضاً‏.‏ وحميري بن رياح، وتقدم ضبطه‏.‏

ورياح بن يربوع‏.‏ ويربوع اثنان‏:‏ أحدهما يربوع أبو حي من تميم، وهو يربوع بن حنظلة بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان‏.‏ والثاني أبو بطن من مرة، وهو يربوع بن غيظ بن مرة ابن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان ابن مضر بن نزار‏.‏

وسحيم بن وثيل يتصل نسبه بيربوع بن حنظلة، كما قال ابن الكلبي في الجمهرة‏.‏ فمن بني حميري بن رياح بن يربوع بن حنظلة سحيم بن وثيل بن عمرو بن جوين بن أهيب بن حميري الشاعر، القائل‏:‏

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وهو الذي نافر غالباً أبا الفرزدق في الإسلام‏.‏ انتهى وليس في آباء سحيم من اسمه جلا‏.‏ وسحيم شاعر معروف في الجاهلية والإسلام، عده الجمحي في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام وقال‏:‏ سحيم بن وثيل شاعر خنذيذ شريف، مشهور الذكر في الجاهلية والإسلام، جيد الموضع في قومه‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ عاش سحيم في الجاهلية أربعين سنة وفي الإسلام ستين سنة، فهو من الشعراء المخضرمين، وله أخبار مع زياد ابن أبيه، وهو الذي افتخر مع غالب بن صعصعة والد الفرزدق في نحر الإبل، فبلغ علياً رضي الله فأفتى بحرمة ما نحره سحيم‏.‏

وستأتي إن شاء الله تعالى هذه القصة مشروحة في باب الاشتغال في قول جرير‏:‏

تعدون عقر النيب أفضل مجدكم *** بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا

وله سميان من الشعراء‏:‏ أحدهما سحيم بن الأعرف، وهو من بني الهجيم، وكان في الدولة الأموية، ولم يذكر ابن قتيبة في طبقات الشعراء غير هذا وأورد طرفاً من شعره‏.‏ والثاني سحيم عبد بني الحسحاس، وكان عبداً حبشياً، وهو صاحب القصيدة التي أولها‏:‏

عميرة ودع إن تجهزت غادي *** كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وهو من شواهد مغني اللبيب، وسنذكر إن شاء الله ترجمته بتوفيق الله تعالى في الشاهد الرابع والتسعين‏.‏

ولم يذكر الآمدي في كتابه المؤتلف والمختلف واحداً من هؤلاء الثلاثة، مع أنه من شرط كتابه‏.‏

وقد حصل اللبس للعيني في باب المعرب والمبني من اتفاق أسماء هؤلاء، فزعم أن الأول هو الثالث فقال‏:‏ سحيم بن وثيل الرياحي كان عبداً حبشياً، وكان عبد بني الحسحاس‏.‏ هذا فيما قاله الجوهري‏.‏ انتهى‏.‏

مع أن الجوهري لم يذكر لفظ سحيم في صحاحه‏.‏

وأغرب من هذا كله أنه أورد أبياتاً قبل بيت أنا ابن جلا ، وأكثرها من قصيدة المثقب العبدي التي أوله‏:‏ الوافر

أفاطم قبل بينك متعيني *** ومنعك ما سألت كأن تبيني

وفيها بيت لعلي بن بدال، من بني سليم وهو‏:‏ الوافر

فلو أنا على حجر ذبحن *** جرى الدميان بالخبر اليقين

وهذا ثالث أبيات ثلاثة يأتي شرحها إن شاء الله في باب المثنى، وفيها ثلاثة أبيات لسحيم بن وثيل من الأبيات التي شرحناها، وهي قوله‏:‏ أنا ابن جلا‏.‏‏.‏البيت‏.‏ والثاني‏:‏ وماذا يبتغي الشعراء مني‏.‏ البيت، والثالث‏:‏ أخو خمسين مجتمع أشدي‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ فما أورده مجموع من شعر شعراء ثلاثة‏.‏ وقال في باب ما لا ينصرف عند شرح بيت أنا ابن جل‏:‏ قائله سحيم بن وثيل الرياحي، وقيل المثقب العبدي، وقيل أبو زبيد، وقيل إنه من قصيدة سحيم التي أولها‏:‏

أفاطم قبل بينك متعيني

تتمة

المخضرم بالخاء والضاد المعجمتين على صيغة اسم المفعول، ونقل السيوطي في شرح تقريب النووي عن بعض أهل اللغة كسر الراء أيضاً‏.‏ قال صاحب القاموس‏:‏ هو الماضي نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، وقيل‏:‏ من أدركهما‏.‏ وهذان القولان يعمان الشاعر وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الشاعر الذي أدركهما، وهذا هو المشهور‏.‏ وعليه اقتصر صاحب الصحاح‏.‏ ثم توسع حتى أطلق على من أدرك دولتين، كرؤبة بن العجاج وحماد عجرد، فإنهما أدركا دولة بني أمية ودولة بني العباس‏.‏

وقال السيوطي في شرح التقريب‏:‏ المخضرم في اصطلاح أهل الحديث هو الذي أدرك الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وفي اصطلاح أهل اللغة هو الذي عاش نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، سواء أدرك الصحبة أم لا، فبين الإصطلاحين عموم وخصوص من وجه، فحكيم بن حزام مخضرم باصطلاح اللغة لا الحديث، وبشر بن عمرو مخضرم باصطلاح الحديث لا اللغة‏.‏ انتهى‏.‏

وفي تعريفه اصطلاح اللغة نظر وتأمل‏.‏

ثم قال‏:‏ والمراد بإدراك الجاهلية ما قبل البعثة، كما قال النووي في شرح مسلم‏.‏ قال العراقي‏:‏ وفيه نظر، والظاهر إدراك قومه وغيرهم على الكفر قبل فتح مكة، فإن العرب بعده بادروا إلى الإسلام وزال أمر الجاهلية، وخطب صلى الله عليه وسلم في الفتح بإبطال أمرها‏.‏

وقد ذكر مسلم في المخضرمين بشير بن عمرو، وإنما ولد بعد الهجرة‏.‏

قال ابن رشيق في العمدة‏:‏ قال أبو الحسن الأخفش‏:‏ ماء خضرم كزبرج، إذا تناهى في الكثرة والسعة، فمنه سمي الرجل الذي شهد الجاهلية والإسلام‏:‏ مخضرماً، كأنه استوفى الأمرين‏.‏ قال‏:‏ ويقال أذن مخضرمة، إذا كانت مقطوعة، فكأنه انقطع عن الجاهلية والإسلام‏.‏

وحكى ابن قتيبة عن عبد الرحمن عن عمه قال‏:‏ أسلم قوم في الجاهلية على إبل قطعوا آذانها فسمي كل من أدرك الجاهلية والإسلام مخضرماً‏.‏ وزعم أنه لا يكون مخضرماً حتى يكون إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا عندي خطأ، لأن النابغة الجعدي ولبيداً قد وقع عليهما هذا الاسم‏.‏

وحكى علي بن الحسن كراع‏:‏ يقال‏:‏ شاعر محضرم بحاء غير معجمة مأخوذ من الحضرمة، وهي الخلط، لأنه خلط الجاهلية والإسلام‏.‏

وحكى ابن خلكان مع الحاء المهملة كسر الراء أيضاً‏.‏

واعلم أن الشعراء أربع طبقات‏:‏ الأولى جاهلي قديم، الثانية المخضرم، الثالثة إسلامي، الرابعة محدث‏.‏ وهم أربعة أقسام‏:‏ شاعر خنذيذ بالخاء والنون والذالين المعجمات على وزن إبريق، وهو الذي يجمع إلى جيد شعره رواية الجيد من شعر غيره‏.‏ وشاعر مفلق وهو الذي لا رواية له إلا أنه مجود كالخنذيذ في شعره، والمفلق معناه الذي يأتي في شعره بالفلق - بالكسر - وهو العجب، وقيل هو اسم الداهية‏.‏ وشاعر فقط وهو الذي فوق الرديء بدرجة‏.‏ وشعرور وهو لا شيء‏.‏ وقيل‏:‏ بل هم شاعر مفلق، وشاعر مطلق، وشويعر، وشعرور‏.‏

وسمي الشاعر شاعراً لأنه يشعر لما لا يشعر له غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى واختراعه، واستطراف لفظ وابتداعه، وزيادة فيما أجحف به غيره من المعاني، ونقص مما أطاله سواه من الألفاظ، وصرف معنى إلى وجه من وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازاُ لا حقيقة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد التاسع والثلاثون

نبئت أخوالي بني يزيد *** ظلماً علينا لهم فديد

على أن يزيد علم محكي لكونه سمي بالفعل مع ضميره المستتر، من قولك‏:‏ المال يزيد، ولو كان من قولك يزيد المال لوجب منعه من الصرف، وكان هنا مجروراً بالفتحة‏.‏ ونبئت‏:‏ مجهول نبأ بالتشديد، كقولك علمته كذا‏.‏

قال السمين‏:‏ أنبأ ونبأ، وأخبر وخبر، متى تضمنت معنى أعلم تعدت لثلاثة مفاعيل، وهو نهاية التعدي‏.‏ وأما علمته بكذا فلتضمنه معنى الإحاطة‏.‏ قيل ونبأته أبلغ من أنبأته، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير‏}‏، ولم يقل أنبأني لأنه من قبل الله تعالى‏.‏

والمفعول الأول هنا ضمير المتكلم في نبئت، والثاني أخوالي، والثالث جملة لهم فديد‏.‏ وأصل المفعولين الأخيرين المبتدأ والخبر‏.‏ والفديد‏:‏ الصوت، وهو مصدر، فد يفد بالكسر، أي‏:‏ أن أصواتهم تعلو علينا ولا يوقروننا في الخطاب‏.‏ ورجل فداد بالتشديد‏:‏ شديد الصوت‏.‏ وفي الحديث‏:‏ إن الجفاء والقسوة في الفدادين ، وهم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم‏.‏ وبني يزيد هم تجار كانوا بمكة حرسها الله تعالى - وإليهم تنسب البرود اليزيدية كما يأتي آنفاً - نعت لأخوالي، وبيان له، وبدل منه‏.‏

وقال ابن الحاجب في الإيضاح‏:‏ لا يحسن أن يكون بدلاً، لأن البدل هو المقصود بالذكر، ولو جعلته بدلاً لاحتاج إلى موصوف مقدر، وهم الأخوال وما يقوم مقامهم‏.‏ ولا حاجة إلى هذا التقدير مع الاستغناء عنه، فيتعين أن يكون صفة‏.‏ وقد يجوز البدل على قبحه‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه نظر، فإنه على تقدير كونه بدلاً لا يحتاج إلى موصوف مقدر، فإنه مذكور، وهو أخوالي‏.‏ وليس معنى الإبدال أن يكون المبدل منه لغواً ساقطاً عن الاعتبار، كيف وقد يعود الضمير عليه في نحو قطع زيد إصبعه، فلو كان في حكم الساقط بالكلية لجهل مرجع الضمير، ولم يقل أحد إنه راجع إلى زيد مقدر مع وجوده، وإنما المقصود بالذكر في بدل الكل المبدل منه والبدل جميعاً، كما حققه الشارح المحقق‏.‏ ويؤيده أنهم جعلوا الجن بدلاً من شركاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن‏}‏‏.‏ فلولا اعتبارهما ما كان معنى لقولنا وجعلوا لله الجن‏.‏

وقد تبع ابن الحاجب الزمخشري في هذا، فإنه منع في كشافه أن يكون أن اعبدوا الله ظناً منه أن المبدل منه في قوة الساقط، فتبقى الصلة بلا عائد‏.‏ ووهمه صاحب المغني بأن العائد موجود حساً فلا مانع‏.‏

وقد نقض ابن الحاجب ما عده قبيحاً هنا بقوله في أماليه‏:‏ والأحسن أن يكون بني يزيد بدلاً من أخوالي، لأن البدل إنما يكون بالأسماء الموضوعة للذوات، بخلاف ابن فإنه موضوع لذات باعتبار معنى هو المقصود وهو البنوة‏.‏

قال الشارح المحقق‏:‏ الأغلب في البدل أن يكون جامداً، بحيث لو حذف الأول لاستقل الثاني ولم يحتج إلى متبوع قبله في المعنى‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يجوز أن يكون بني يزيد المفعول الثالث، لأنه لم يرد الإخبار عن أخواله بأنهم بنو يزيد، ولأن قوله لهم فديد يبقى غير مرتبط بما قبله‏.‏ وقوله ظلماً عندي أنه تمييز محول عن المفعول، أي‏:‏ نبئت ظلم أخوالي‏.‏

وقال ابن الحاجب في الإيضاح ، واختاره ابن هشام في شواهده‏:‏ وقد أجيز أن يكون ظلماً مفعولاً ثالثاً، يعني ظالمين، وذوي ظلم، ويكون ما بعده كالتفسير له‏.‏ ولا يخفى ما في هذا‏.‏ وقال في أماليه‏:‏ لا يجوز أن يكون حالاً، أي‏:‏ بالتأويل المذكور، من أخوالي، لأن المبتدأ لا يتقيد، ولا من ضمير لهم لأنها لا تتقدم على عاملها المعنوي‏.‏ وفيه أنه حال من المفعول لا من المبتدأ، لأنه انفسخ حكمه‏.‏ وقوله لأن المبتدأ لا يتقيد فيه مسامحة، لأن الحال إنما هي قيد في عاملها لا في صاحبها، ولما كان العامل في المبتدأ الابتداء، وهو ليس معنى فعلياً ليصح تقييده، امتنع مجيء الحال منه لذلك‏.‏

ومن جوزه كسيبويه لم يلتزم اتحاد العامل فيهما، فجوز أن يكون العامل في المبتدأ الابتداء وفي الحال منه الانتساب‏.‏ واعترض بأن الانتساب عامل ضعيف لا يتحقق إلا بتقدم الطرفين عليه‏.‏ وأجيب بأن قوة طلب المبتدأ لخبره جعلته في حكم المتقدم‏.‏ ولا يجوز أيضاً أن يكون مفعولاً لأجله كما اختاره العيني، سواء كان علة لنبئت لأنه لم ينبأ لأجل ظلمهم، وللاستقرار لأنه تقدم على عامله المعنوي، وللفديد لأنه يلزم تقدم معمول المصدر عليه‏.‏ وقيل تمييز من لهم فديد أي‏:‏ يصيحون ظلماً لا عدلاً‏.‏ وفيه أن التمييز لا يتقدم على عامله‏.‏ وقيل هو مفعول مطلق عامله من لفظه محذوفاً‏.‏

وقال العيني‏:‏ ويجوز أن يكون حالاً بتقدير جملة، أي‏:‏ في حال كونهم يظلمون علينا ظلماً، فحذفت الجملة التي وقعت حالاً وأقيم المصدر مقامها‏.‏ ولا يخفى أن هذه الوجوه كلها ظاهر فيها التعسف‏.‏ وقوله علينا إما متعلق بظلم وبقوله لهم ، ولا حاجة حينئذ إلى تضمين الفديد معنى الجور، خلافاً للعيني لأنه يتعدى بعلى‏.‏ وقوله لهم خبر مقدم لقوله فديد، وهو بإشباع ضمة الميم، وإسكانها خطأ، لأنه يؤدي إلى جعل كل مصراع من بحر؛ وذلك لا يجوز كما بينه الدماميني في الحاشية الهندية‏.‏

واعلم أن الرواية يزيد بالمثناة التحتية، ورواه ابن يعيش بالمثناة الفوقية‏.‏ قال ابن الحاجب في الإيضاح‏:‏ ومن رواه بالفوقية فقد تنطع وتبجح بأنه قد علم أن في العرب تزيد بالتاء الفوقية، وإليه تنسب البرود التزيدية‏.‏ وهو مردود من وجهين‏:‏ أحدهما أن الرواية هنا بالتحتية‏.‏ والثاني أن تزيد بالفوقية في كلامهم مفرد لا جملة‏.‏ قال‏:‏ الكامل

يعثرن في حد الظبات كأنم *** كسيت برود بني تزيد الأذرع

فاستعماله كالجملة خطأ‏.‏ انتهى‏.‏

وفيما قاله أمران‏:‏ الأول قوله وإليه تنسب البرود التزيدية وإيراده البيت، أعني كسيت برود بني تزيد الأذرع مأخوذ من الصحاح ، فإنه قال فيه‏:‏ وتزيد أي‏:‏ بالمثناة الفوقية وهو تيد بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وإليه تنسب البرود التزيدية‏.‏ قال علقمة‏:‏ البسيط

رد القيان جمال الحي فاحتملو *** فكلها بالتزيديات معكوم

وهي برود فيها خطوط حمر يشبه بها طرائق الدم، قال أبو ذؤيب‏:‏

يعثرن في حد الظبات كأنم *** كسيت برود بني تزيد الأذرع

انتهى‏.‏ وفيه أمور‏:‏ الأول أنه قصر في تعديد من اسمه تزيد، وهم على ما ذكره العسكري في التصحيف ثلاثة‏:‏ أحدهم تزيد القضاعة، وهو ما ذكره‏.‏ والثاني تزيد الأنصار وهو تزيد بن جشم بن الخزرج، منهم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه‏.‏ والثالث تزيد تنوخ، كانت الترك أغارت عليهم فأفنتهم، فقال عمرو بن مالك التزيدي‏:‏ الوافر

وليلتنا بآمد لم ننمه *** كليلتنا بميا فارقينا

الثاني قوله تزيد بن حلوان بالضم، وتبعه صاحب العباب والقاموس وغيرهما، صوابه تزيد بن حيدان، نبه عليه العسكري في التصحيف فيما تلحن فيه الخاصة‏.‏

الثالث قوله وإليه تنسب البرود التزيدية، صوابه الهوادج التزيدية إنما هو بالمثناة التحتية منسوبة إلى بني يزيد بالتحتية، وبنو يزيد تجار كانوا بمكة حرسها الله وهي برود حمر‏.‏

وأما قول أبي ذؤيب كسيت برود بني يزيد الأذرع فليس إلا يزيد بالياء تحتها نقطتان‏.‏ ومن قال في هذا البيت بني تزيد بالتاء فقد أخطأ‏.‏ وقد ادعى الجهمي النسابة على الأصمعي أنه صحف تزيد بالتاء منقوطة فوقها، ولا أدري أصدق الجهمي أم كذب، لأن الاصمعي ينكر في تفسير أشعار الهذيل من يقول تزيد بتاء منقوطة فوقها‏.‏ انتهى كلام العسكري‏.‏

ورأيت في شرح أشعار هذيل للسكري في نسخة أبي بكر القناوي، وقد قرأها ابن فارس على ابن العميد وعليها خطهما، قال في تفسير هذا هذ البيت‏:‏ العامة تقول بني تزيد، أي‏:‏ بنقطتين من فوق، ولم أسمعها هكذا‏.‏ ورأيت في شرحها أيضاً للإمام المرزوقي في هذا البيت‏:‏ روى الأصمعي بني يزيد أي‏:‏ بالتحتية وقال‏:‏ هم تجار كانوا بمكة‏.‏ وروى أبو عمر بني تزيد أي‏:‏ بالفوقية، وقال‏:‏ هو تزيد بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة‏.‏ واحتج ببيت علقمة‏:‏

فكلها بالتزيديات معكوم والظبة‏:‏ حد السهم والسيف‏.‏ ومعنى البيت أن الحمر تعثر والسهام فيها، وأذرعها مما سالت من الدماء عليها كأنها كسيت بروداً حمراً، شبه طرائق الدم بطرائق البرود‏.‏ انتهى‏.‏

وفي العباب للصاغاني‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ تزيد بن المثناة فهو تزيد بن حلوان، إلى آخر ما ذكره صاحب الصحاح ‏.‏ وقال غير ابن حبيب‏:‏ يزيد بالمثناة من تحت، وهم تجار كانوا بمكة، وهو ضروب من البرود‏.‏ وصاحب القاموس قد أخل باختصاره، حيث لم يقيد بالفوقية وبالتحتية فإنه قال‏:‏ تزيد بن حلوان أبو قبيلة، ومنه البرود التزيدية، وبها خطوط حمر‏.‏ فلا يعلم هو بالتاء أم بالياء‏.‏

رأيت في معجم ما استعجم لأبي عبيد البكري في الكلام على جزيرة العرب، عندما ذكر تفرق كلمة العرب ووقوع الحروب بينهم وتشتتهم، أن تزيد تنوخ هي تزيد قضاعة‏.‏ قال‏:‏ وخرجت فرقة من بني حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ورئيسهم عمرو بن مالك التزيدي، فنزلوا عبقر من أرض الجزيرة، فنسج نساؤهم الصوف وعملوا منه الزرابي، فهي التي يقال لها العبقرية ، وعملوا البرود وهي التي يقال لها التزيدية ، وأغارت عليهم الترك فأصابتهم وسبت منهم‏.‏ فلذلك قول عمرو بن مالك بن زهير‏:‏ الوافر

ألا الله ليل لم ننمه *** على ذات الحصاب مجنبينا

وليلتنا بآمد لم ننمه *** كليلتنا بميا فارقينا

وأقبل الحارث بن قراد البهراني ومضت بهراء حتى لحقت بالترك فهزموهم واستنقذوا ما بأيديهم من بني تزيد‏.‏ انتهى‏.‏

الأمر الثاني في كلام ابن الحاجب أن قوله تزيد بالفوقية في كلامهم مفرد لا جملة إلخ‏.‏ أقول‏:‏ لا مانع من استعماله مفرداً وجملة، باعتبار نقله مع الضمير وبدونه، كما استعمل يزيد بالوجهين مع الاعتبارين في قوله‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومه

فإنهم قالوا روي ليبك بالبناء للفاعل ويزيد مفعوله وهو منصوب بالفتحة وضارع فاعله، وروي بالبناء للمفعول ويزيد نائب فاعل، وأي فرق بينهما‏؟‏‏!‏ تأمل‏.‏

تتمة

هذا البيت في غالب كتب النحو، ولم يظفر بقائله، ولم يعزه أحد لقائله غير العيني، فإنه قال‏:‏ هو لرؤبة بن العجاج‏.‏ وقد تصفحت ديوانه فلم أجده فيه‏.‏ والله أعلم‏.‏

باب الفاعل

أنشد فيه، وهو

الشاهد الأربعون

جزى ربه عني عدي بن حاتم *** جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

على أن الأخفش وابن جني قد أجازا اتصال ضمير المفعول به بالفاعل مع تقدم الفاعل لشدة اقتضاء الفعل للمفعول به كاقتضائه للفاعل‏.‏

أقول‏:‏ وممن ذهب مذهبهما أبو عبد الله الطوال من الكوفيين، وابن مالك في التسهيل وشرحه، وأطال في الرد عليه الشاطبي في شرح الألفية، ونصر الإمام عبد القاهر الجرجاني مذهب الأخفش في المسائل المشكلة‏.‏

قال الفناري في حاشية المطول‏:‏ وذهب بعضهم إلى عدم إخلال الإضمار قبل الذكر بالفصاحة، مستنداً بأن عبد القاهر قدوة في فن البلاغة، وهو المرجع فيها، وكلامه حجة مطلقاً‏.‏ وقد بين ابن جني مذهبه في الخصائص فقال‏:‏ وأجمعوا على أن ليس بجائز ضرب غلامه زيداً لتقدم المضمر على مظهره لفظاً ومعنى، وقالوا في قول النابغة‏:‏

جزى ربه عني عدي بن حاتم

إن الهاء عائدة على عدي خلافاً على الجماعة‏.‏ فإن قيل‏:‏ الفاعل رتبته التقدم، والمفعول رتبته التأخر فقد وقع كل منهما الموقع الذي هو أولى به، فليس لك أن تعتقد في الفاعل إذا وقع مؤخراً أن موضعه التقديم‏.‏ فإذا وقع مقدماً فقد أخذ مأخذه، وإذا كان كذلك فقد وقع المضمر قبل مظهره لفظاً ومعنى، وهذا ما لا يجوزه القياس‏.‏ قيل‏:‏ الأمر وإن كان ظاهره ما تقوله فإن هنا طريقاً آخر يسوغك غيره، وذلك أن المفعول قد شاع واطرد كثرة تقدمه على الفاعل، حتى دعا ذلك أبا علي إلى أن قال‏:‏ إن تقديم المفعول على الفاعل قسم قائم برأسه، وإن كان تقديم الفاعل أكثر، وقد جاء به الاستعمال مجيئاً واسعاً، فلما كثر وشاع تقديم المفعول صار كأن الموضع له، حتى أنه إذا أخر فموضعه التقديم، فعلى ذلك كأنه قال‏:‏ جزى عدي بن حاتم ربه ، ثم قدم الفاعل على أنه قد قدره مقدماً عليه مفعوله، فجاز لذلك‏.‏ ولا تستنكر هذا الذي صورته لك، فإنه مما تقبله هذه اللغة، ألا ترى أن سيبويه أجاز في جر الوجه من قولك‏:‏ هذا الحسن الوجه أن يكون من موضعين‏:‏

أحدهما بإضافة الحسن إليه، والآخر تشبيهه له بالضارب الرجل، مع أنا نعلم أن الجر في الرجل إنما جاءه من تشبيههم إياه بالحسن الوجه، لكن لما اطرد الجر في الضارب الرجل صار كأنه أصل في بابه، حتى دعا ذلك سيبويه إلى أن عاد فشبه الحسن الوجه به، وهذا يدلك على تمكن الفروع عندهم، حتى أن الأصول التي أعطت فروعها حكماً قد حارت، فاستعارت من فروعها ذلك الحكم، فكذلك تصيير تقديم المفعول لما استمر وكثر كأنه هو الأصل وتأخير الفاعل كأنه أيضاً هو الأصل‏.‏ ويؤكد أن الهاء في ربه لعدي بن حاتم من جهة المعنى، عادة العرب في الدعاء، لا تكاد تقول جزى رب زيد عمراً وإنما يقال جزاك ربك خير وشراً، وذلك أفق لأنه إذا كان مجازيه ربه كان أقدر على جزائه وإيلامه، ولذلك جرى العرف بذلك؛ فاعرفه‏.‏ انتهى‏.‏

وملخص كلامه أن المفعول في هذه الصورة متقدم في الرتبة، لكن تأخر لضرورة الشعر، فالضمير المتصل بالفاعل عائد على متقدم حكماً‏.‏ وهذا غير قول الشارح المحقق لشدة اقتضاء الفعل للمفعول به ‏.‏

على أن حفيد السعد قال في حاشية المطول‏:‏ فيه أن ذلك لا يدفع الإضمار قبل الذكر‏.‏ نعم لو كان اقتضاء المفعول أشد، تم الكلام‏.‏ انتهى‏.‏

وتبع التفتازاني في المطول الشارح فيما ذكرناه وأورد بيت الشاهد وقوله‏:‏

لما عصى أصحابه مصعب *** أدى إليه الكيل صاعاً بصاع

ثم قال‏:‏ ورد بأن الضمير للمصدر المدلول عليه بالفعل أي‏:‏ رب الجزاء وأصحاب العصيان، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ أي‏:‏ العدل‏.‏ وأما قوله‏:‏ البسيط

جزى بنوه أبا العيلان عن كبر *** وحسن فعل كما يجزى سنمار

وقوله‏:‏

ألا ليت شعري هل يلومن قومه *** زهيراً على ما جر من كل جانب

فشاذ لا يقاس به‏.‏ انتهى‏.‏

قال الفناري‏:‏ ويمكن أن يقال الضمير في ربه راجع إلى المتكلم على طرقة الالتفات عند السكاكي، على قول امرئ القيس‏:‏

تطاول ليلك بالإثمد

انتهى‏.‏ ولا يخفى بطلانه لسماجته، فإن الالتفات إنما وقع من المتكلم إلى خطاب النفس لا إلى الغيبة‏.‏ فتأمل‏.‏ والجزاء‏:‏ المكافأة‏.‏ وعن هنا للبدل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً‏}‏‏.‏ وقوله جزاء الكلاب مصدر تشبيهي، أي‏:‏ جزاء كجزاء الكلاب العاويات، وهو الضرب والإهانة‏.‏ قيل هذا ليس بشيء، وإنما المراد الكلاب التي تتداعى للسفاد‏.‏ يقال‏:‏ عاوت الكلبة الكلاب فهي معاوية، أي‏:‏ دعتهم للسفاد‏.‏ ولا يكاد يستعمل العواء للكلاب إلا عند السفاد، والمستعمل في غير ذلك النباح، وإنما العواء للسباع‏.‏ وقيل أنه يعني بالعاويات المسعورة، ومن شأنها إذا أريد برؤها أن يؤخذ سفود فيدخل في أدبارها‏.‏ والسعر بضمتين، والسعار بضم أوله‏:‏ الجنون‏.‏ والسعر ككتف‏:‏ المجنون‏.‏ وروي‏:‏ الكلاب العاديات ، جمع العادي من العدو‏.‏ دعا عليه بأحد هذه المعاني ثم حققها عليه فقال‏:‏ وقد فعل أي‏:‏ استجاب الله ما دعوت عليه وحققه‏.‏ ومثله للمتنبي‏:‏

وهذا دعاء لو سكت كفيته *** لأني سألت الله فيك وقد فعل

وجملة وقد فعل حال من ربه‏.‏

وهذا البيت لأبي الأسود الديلي يهجو به عدي بن حاتم الطائي‏.‏

وزعم ابن جني وغيره أنه للنابغة الذبياني‏.‏ وهو وإن عاصر عدياً لكن الذي روي له إنما هو‏:‏

جزى الله عبساً عبس آل بغيض *** جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

وليس فيه ما نحن فيه، وسيأتي الكلام عليه‏.‏ وقال العيني‏:‏ قيل إن قائله لم يعلم، حتى قال ابن كيسان‏:‏ أحسبه مولداً مصنوعاً‏.‏ قال‏:‏ والضمير لغير عدي، فكأنه وصف رجلاً أحسن إليه ثم قال‏:‏ جاه ربه خيراً وجزى عني عدي بن حاتم شراً، فحينئذ لا شذوذ في البيت‏.‏ ولا يخفى ركاكته‏.‏

أما أبو الأسود الديلي فاسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر ابن حليس بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار‏.‏ وهم إخوة قريش، لأن قريشاً تختلف في الموضع الذي افترقت فيه مع بني أبيها‏.‏ والنسابون يقولون‏:‏ إن من يلده فهر بن مالك بن النضر فليس قرشياً‏.‏

وهو واضع علم النحو بتعليم علي رضي الله عنه، وكان من وجوه شيعته واستعمله على البصرة بعد ابن عباس‏.‏ وقبل هذا كان استعمله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما‏.‏ وتوفي فيما ذكره المدائني في الطاعون الجارف في سنة تسع وستين وله خمس وثمانون سنة، وقيل مات قبل ذلك‏.‏

قال الجاحظ‏:‏ أبو الأسود الديلي معدود في طبقات من الناس، وهو فيها كلها مقدم ومأثور عنه الفضل في جميعها، كان معدوداً في التابعين والفقهاء والمحدثين، والشعراء، والأشراف، والفرسان والأمراء، والدهاة، والنحويين، والحاضرين الجواب، والشيعة، والبخلاء، والصلع الأشراف، والبخلاء الأشراف‏.‏ وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى‏:‏ كان أبو الأسود كاتباً لابن عباس على البصرة، وهو الذي يقول‏:‏ الكامل

وإذا طلبت من الخلائق حاجة *** فادع الإله وأحسن الأعمال

فليعطينك ما أراد بقدرة *** وهو اللطيف إذا أراد فعالا

إن العباد وشأنهم وأمورهم *** بيد الإله يقلب الأحوال

فدع العباد ولا تكن بطلابهم *** لهجاً تضعضع للعباد سؤالا

وفي الأغاني بسنده إلى ابن عياش قال‏:‏ خطب أبو الأسود امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد، فأسر أمرها إلى صديق له من الأزد يقال له الهيثم بن زياد، فحدث به ابن عم له كان يخطبها، وكان لها مال عند أهلها، فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها في أيديهم فأخبرهم خبر أبي الأسود وسألهم أن يمنعوها من نكاحه ومن مالها الذي في أيديهم، ففعلوا ذلك وضاروها حتى تزوجت ابن عمها، فقال أبو الأسود في ذلك‏:‏

لعمري لقد أفشيت يوماً فخانني *** إلى بعض من لم يخش سراً ممنعا

فمزقه مزق العمى وهو غافل *** ونادى بما أخفيت منه فأسمعا

فقلت ولم أفحش لعاً لك عاثر *** وقد يعثر الساعي إذا كان مسرعا

ولست بجازيك الملامة إنني *** أرى العفو أدنى للرشاد وأوسعا

ولكن تعلم أنه عهد بينن *** فبن غير مذموم ولكن مودعا

حديث أضعناه كلانا، فلن أرى *** وأنت نجيا آخر الدهر أجمعا

وكنت إذا ضيعت سرك لم تجد *** سواك له إلا أشت وأضيعا

وقال فيه أيضاً‏:‏

أمنت أمراً في السر لم يك حازم *** ولكنه في النصح غير مريب

أذاع به في الناس حتى كأنه *** بعلياء نار أوقدت بثقوب

وكنت متى لم ترع سرك تنتشر *** قوارعه من مخطئ ومصيب

فما كل ذي لب بمؤتيك نصحه *** وما كل مؤت نصحه بلبيب

ولكن إذا ما استجمعا عند واحد *** فحق له من طاعة بنصيب

وفي الأغاني أيضاً بسنده عن عوانة، قال‏:‏ كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة فيتحدث إليها، وكانت برزة جميلة، فقالت له‏:‏ يا أبا الأسود هل لك أن أتزوجك، فإني صناع الكف حسنة التدبير، قانعة بالميسور، قال‏:‏ نعم‏.‏ فجمعت أهلها وتزوجته، فوجد عندها خلاف ما قدره، وأسرعت في ماله، ومدت يدها إلى خيانته، وأفشت سره؛ فغدا على من كان حضر تزويجه إياها فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا، فقال لهم‏:‏ المتقارب

أريت امرأ كنت لم أبله *** فقال اتخذني صديقاً خليلا

فخاللته ثم أكرمته *** فلم أستفد من لدنه فتيلا

وألفيته حين جربته *** كذوب الحديث سروقاً بخيلا

فذكرته ثم عاتبته *** عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا

فألفيته غير مستعتب *** ولا ذاكر الله إلا قليلا

ألست حقيقاً بتوديعه *** وإتباع ذلك صرماً طويلا

فقالوا له‏:‏ بلى والله يا أبا الأسود‏!‏ فقال‏:‏ تلك صاحبتكم، وقد طلقتها لكم ، وأنا أحب أن أستر ما أنكرته من أمرها‏.‏ فانصرفت معهم‏.‏

وفيه أيضاً بسنده إلى ابن عياش قال‏:‏ كان المنذر بن الجارود العبدي صديقاً لأبي الأسود، يعجبه مجالسته وحديثه؛ وكان كل منهما يغشى صاحبه؛ وكانت لأبي الأسود مقطعة من برود يكثر لبسها فقال له المنذر‏:‏ لقد أدمنت لبس هذه المقطعة‏!‏ فقال أبو الأسود‏:‏ رب ملول لا يستطاع فراقه‏!‏ فعلم المنذر أنه قد احتاج إلى كسوة، فأهدى له ثياباً، فقال أبو الأسود يمدحه‏:‏

كساك ولم تستكسه فحمدته *** أخ لك يعطيك الجزيل وياصر

وإن أحق الناس، إن كنت حامد *** بحمدك من أعطاك والعرض وافر

وروى الحريري في درة الغواص ، عن عبيد الله بن عبد الله لن طاهر قال‏:‏ اجتمع عندنا أبو نصر أحمد بن حاتم، وابن الأعرابي؛ فتجارياالحديث إلى أن حكى أبو نصر‏:‏ أن أبا الأسود دخل على عبيد الله بن زياد وعليه ثياب رثة، فكساه ثياباً جدداً من غير أن عرض له بسؤال، فخرج وهو يقول‏.‏‏.‏‏.‏ وأنشد البيتين ثم قال‏:‏ وأنشد أبو نصر‏:‏ وياصر يريد به‏:‏ ويعطف؛ فقال له ابن الأعرابي‏:‏ بل هو وناصر بالنون؛ فقال له أبو نصر‏:‏ دعني يا هذا وياصري، وعليك بناصرك‏!‏ ‏.‏

وفي الأغاني أيضاً بسنده إلى أبي عبيدة قال‏:‏ كان أبو حرب بن أبي الأسود قد لزم منزل أبيه بالبصرة، ولا ينتجع أرضاً ولا يطلب الرزق في تجارة ولا غيرها؛ فعاتبه أبوه على ذلك، فقال أبو حرب‏:‏ إن كان لي رزق فسيأتيني‏!‏ فقال له أبوه‏:‏ الوافر

وما طلب المعيشة بالتمني *** ولكن ألق دلوك في الدلاء

تجيء بملئها يوماً، ويوم *** تجيء بحمأة وقليل ماء

وفيه أيضاً بسنده إلى عبد الملك بن عمير قال‏:‏ كان ابن عباس، رضي الله عنه، يكرم أبا الأسود لما كان عاملاً بالبصرة لعلي، رضي الله عنه، ويقضي حوائجه، فلما ولي ابن عامر جفاه وأبعده ومنعه حوائجه، لما كان يعلمه من هواه في علي، رضي الله عنه، فقال فيه أبو الأسود‏:‏

ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر *** وما مر من عيشي ذكرت وما فضل

أميرين كانا صاحبي كلاهم *** فكلا جزاه الله عني بما فعل

فإن كان شراً كان شراً جزاؤه *** وإن كان خيراً كان خيراً إذا عدل

وفيه أيضاً بسنده إلى العتبي قال‏:‏ كان لأبي الأسود جار في ظهر داره، له باب إلى قبيلة أخرى، وكان بين داره ودار أبي الأسود باب مفتوح يخرج منه كل واحد إلى قبيلة صاحبه إذا أرادها، وكان الرجل ابن عم أبي الأسود دنياً، وكان شرساً سيء الخلق، فأراد سد ذلك الباب، فقال له قومه‏:‏ لا تفعل فتضر بأبي الأسود وهو شيخ، وليس عليك في هذا الباب ضرر ولا مؤنة‏!‏ فأبى إلا سده، ثم ندم على ذلك لأنه أضر به، فكان إذا أراد سلوك الطريق التي يسلكها منه بعد عليه، فعزم على فتحه، وبلغ ذلك أبا الأسود فمنعه منه وقال فيه‏:‏ الوافر

بليت بصاحب إن أدن شبر *** يزدني في مباعدة ذراعا

وإن أمدد له في الوصل ذرعي *** يزدني فوق قيس الذرع باعا

أبت نفسي له إلا اتباع *** وتأبى نفسه إلا امتناعا

كلانا جاهد‏:‏ أدنو وينأى *** فلذلك ما استطعت وما استطاعا

وقال فيه أيض‏:‏ مجزوء الكامل

أعصيت أمر ذوي النهى *** وأطعت أمر ذوي الجهاله

أخطأت حين صرمتني *** والمرء يعجز لا محاله

والعبد يقرع بالعص *** والحر تكفيه المقاله

وقد أطلتا في إيراد شعره، لكنا أطبنا‏:‏ فإن حكمه شفاء الصدور، ودرر قلائد النحور‏.‏

وأما عدي بن حاتم فنسبته‏:‏ عدي بن حاتم الطائي بن عبد الله بن سعد ابن حشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخرم بن أبي أخزم، واسمه هزومة بن ربيعة ابن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء بن أدد بن زيد بن كهلان؛ إلا أنهم يختلفون في بعض الأسماء إلى طيء‏.‏ وكنية عدي‏:‏ أبو طريف‏.‏ قال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين‏:‏ عاش عدي مائة وثمانين سنة ‏.‏

قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان من سنة سبع‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ من سنة عشر‏.‏ وخبره في قدومه خبر عجيب وحديث صحيح‏.‏ ثم قدم على أبي بكر رضي الله عنه بصدقات قومه حين الردة، ومنع قومه وطائفة معهم من الردة بثبوته على الإسلام وحسن رأيه؛ وكان سرياً شريفاً في قومه، خطيباً حاضر الجواب، فاضلاً كريماً‏.‏ روي عنه أنه قال‏:‏ ما دخل وقت صلاة قط إلا وأنا أشتاق إليها‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ ما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وسع لي وتحرك؛ ودخلت عليه يوماً في بيته وقد امتلأ من أصحابه، فوسع لي حتى جلست إلى جنبه‏.‏

وفي حديث الشعبي، أن عدي بن حاتم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قدم عليه‏:‏ ما أظنك تعرفني‏؟‏ فقال‏:‏ وكيف لا أعرفك، وأول صدقة بيضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة طيء‏.‏ أعرفك آمنت إذا كفروا، وأقبلت إذا أدبروا ووفيت إذا غدروا ‏.‏

ثم نزل عدي الكوفة وسكنها؛ وشهد مع علي رضي الله عنه الجمل، وفقئت عينه يومئذ، ثم شهد مع علي رضي الله عنه صفين والنهروان، ومات بالكوفة وهو ابن مائة وعشرين في سنة سبع وستين‏.‏ كذا في الاستيعاب لابن عبد البر‏.‏

وأما شعر النابغة الذبياني فهو‏:‏

جزى الله عبساً عبس آل بغيض *** جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

بما انتهكوا من رب عدنان جهرة *** وعوف يناجيهم وذلكم جلل

فأصبحتم والله يفعل ذاكم *** يعزكم مولى مواليكم شكل

وروى *** يبوك النساء المرضعات بنو شكل

إذا شاء منهم ناشئ دربخت له *** لطيفة طي الكشح رابية الكفل

قال المفضل بن سلمة في الفاخر‏:‏ روى هذا الشعر للنابغة الذبياني، وقيل إنه لعبد الله بن همارق بضم الهاء وآخره قاف، وهو أحد بني عبد الله بن غطفان‏.‏ وليس في هذا الشعر شاهد لما نحن فيه‏.‏ والسبب فيه‏:‏ أن بني العباس لحقت ببني ضبة بعد يوم الفروق، ثم وقع بينهما دم ففارقتهم عبس فمرت تريد الشام، وبلغ بني عامر ارتفاعهم فخافوا انقطاعهم من قيس بن زهير رئيس بني عبس، فخرجت وفود بني عامر إليهم فدعتهم إلى أن يرجعوا ويحالفوهم، فقال قيس بن زهير‏:‏ حالفوا قوماً في صيابة بني عامر ليس لهم عدد فيبغوا عليكم بعددهم، وإن احتجتم أن يقوموا بنصرتكم قامت بنو عامر‏.‏ فحالفوا معاوية بن شكل بن كعب بن عامر بن صعصعة، فمكثوا فيها إلى أن قال الشاعر هذه الأبيات يعير بني عبس، فلما بلغت قيساً قال‏:‏ ماله قاتله الله أفسد علينا حلفنا‏!‏ فخرجوا عنهم‏.‏ ويبوك‏:‏ مضارع باك المرأة بمعنى جامعها، بالباء الموحدة وآخره كاف‏.‏ ودربخت بالدال والراء المهملتين وبالباء الموحدة والخاء المعجمة، يقال دربخت الحمامة لذكرها‏:‏ طاوعته للسفاد‏.‏ والصيابة - بضم الصاد المهملة وتشديد المثناة التحتية -‏:‏ الخالص، والصميم، والأصل، والخيار من كل شيء والسيد‏.‏ وصيابة القوم‏:‏ لبابهم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو